شهر رجب الحرام: موسمٌ عبادي للانفتاح على الله |
يهلّ علينا بعد يومين
شهر رجب الحرام، وهو شهر مبارك يحفل بالعديد من المناسبات الإسلامية
ومناسبات أهل البيت(ع)، ومن هذه المناسبات: في الثالث منه وفاة الإمام علي
الهادي(ع)، وفي الثامن منه مولد الإمام محمد الجواد(ع)، وفي الثالث عشر
منه مولد أمير المؤمنين الإمام عليّ(ع)، وفي الرابع عشر منه وفاة السيدة
زينب(ع)، وفي الخامس والعشرين منه وفاة الإمام موسى الكاظم(ع).
كما نلتقي بذكرى المبعث والإسراء والمعراج في
السابع والعشرين من شهر رجب، وفي الخامس عشر منه نلتقي بذكرى تحويل القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة.
موسم عبادي:
ويعتبر شهر رجب بداية لموسم عبادي هام ينبغي أن يحرص
المؤمنون على اغتنامه والاستفادة من الفرص التي تتاح فيه، ويتمثل هذا
الموسم في أشهر رجب وشعبان ورمضان، وهي الشهور التي يفيض الله فيها على
عباده بالرحمة والمغفرة والبركة، ولذلك لا بد للإنسان أن يفرّغ نفسه
ويحاسبها ويصفّيها، وأن يجلس بين يدي الله في الصباح والمساء، ليستحضر
ذنوبه بين يدي ربه ويستغفره منها، لأن الله تعالى يغفر لمن استغفره ويتوب
على من تاب إليه.
كما يعتبر رجب واحداً من الأشهر الحرم الأربعة وهي: ذو
القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب الذي يُطلق عليه رجب الفرد، باعتبار أنه وحده
يقع بين شهور ليست من الأشهر الحرم.
وقد أراد الله تعالى للناس أن يعيشوا السلام في هذه الشهور
الأربعة، ويبتعدوا عن القتال، ولذلك سمّيت هذه الأشهر أشهراً حرماً حرّم
الله تعالى فيها القتال، وقد شرّع الله ذلك منذ إبراهيم(ع)، وقد كان العرب
في الجاهلية يقدّسونها، فيجمّدون كل حروبهم عندما تحلّ هذه الأشهر، فيأخذون
بأسباب السلام، حتى أن الإنسان إذا رأى عدوه أو قاتل أبيه، فإنه لا يعرض
له بسوء..
ولم يرخّص الله تعالى للمسلمين في هذه الأشهر أن يهجموا
على المشركين حتى لو كانوا في حالة حرب معهم، ولكن عندما كان المشركون
يعتدون على المسلمين في الشهر الحرام، رخّص الله للمسلمين أن يدافعوا عن
أنفسهم..
رجب.. الأصب الأصم:
ويعتبر هذا الشهر بداية الاستعداد الروحي للإنسان المسلم
لشهر رمضان المبارك الذي هو أفضل الشهور عند الله، الذي يجب أن نستعد له
بشكل كبير، حتى لا يأتينا على حين غرّة، بل نهيئ أنفسنا لاستقباله على
المستوى الروحي، فلا يكون محطةً عابرة، او مجرد طقس سنوي يمثل تقليداً من
تقاليد حياتنا، بل يمتد في جميع أيامنا..
ولشهر رجب حرمته - كما ورد في الحديث عن رسول الله - في
صيامه وقيامه، فعن عبد الله بن عباس قال: كان رسول الله(ص) إذا جاء شهر رجب
جمع المسلمين من حوله وقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر من
كان قبله من الأنبياء فصلى عليهم، ثم قال(ص): "أيها المسلمون، قد أظلّكم
شهر عظيم مبارك وهو الشهر الأصب ـ وقد سُمي بالأصب لأن الله يصبّ فيه رحمته
على عباده - يصب فيه الرحمة على من عبده، إلا عبداً مشركاً أو مظهر بدعة
في الإسلام.. من صام يوماً واحداً في رجب أُمن من الفزع الأكبر وأُجير من
النار.. شهر رجب هو شهر عظيم الخير"..
وفي "ثواب الأعمال" قال رسول الله(ص): "ألا إن رجب شهر
الله الأصمّ، وهو شهر عظيم، وإنما سُمي الأصم لأنه لا يقاربه شهر من الشهور
حرمة وفضلاً عند الله، وكان أهل الجاهلية يعظّمونه في جاهليتهم، فلما جاء
الإسلام لم يزده إلا تعظيماً وفضلاً، ألا وإن رجب شهر الله، وشعبان شهري،
ورمضان شهر أمتي، ألا ومن صام من رجب إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله
الأكبر، وأطفأ صومه في ذلك اليوم غضب الله، وأغلق عنه باباً من أبواب
النار". وقد ورد في الحديث: "رجب شهر الاستغفار لأمتي، فأكثروا فيه من
الاستغفار فإنه غفور رحيم".
أعمال شهر رجب:
وتتنوع الأعمال في شهر رجب بين يوم وآخر، وفي مقدمة هذه
الأعمال عمل "أم داود" الذي هو في منتصف هذا الشهر. وقد كان أئمة أهل
البيت(ع) يستفيدون منه في الدعوة إلى الله تعالى، وقد ورد عن "أبي حمزة
الثمالي" قال: سمعت علي بن الحسين(ع) يدعو في الحجر - حجر إسماعيل - في
غرّة رجب، فأنصتّ إليه وكان يقول: "يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير
الصامتين، لكل مسألة منك سمع حاضر، وجواب عتيد، اللهم ومواعيدك الصادقة،
وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن
تقضي حوائجي للدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير".
وكان الإمام الصادق(ع) إذا دخل شهر رجب يدعو بهذا الدعاء
وفي كل يوم من أيامه: "خاب الوافدون على غيرك، وخسر المتعرضون إلا لك، وضاع
الملمّون إلا بك، وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك، بابك مفتوح
للراغبين، وخيرك مبذول للطالبين، وفضلك مباح للسائلين، ونيلك متاح للآملين،
رزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين،
وسنّتك الإبقاء على المعتدين، اللهم فأهدني هدى المهتدين، وارزقني اجتهاد
المجتهدين، ولا تجعلني من الغافلين المُبعدين واغفر لي يوم الدين".. وكان
يدعو بهذا الدعاء عقب كل صلاة وفي الصباح والمساء: "يا من أرجوه لكل خير،
وآمن سخطه عند كل شر، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا
من يعطي من لم يسأله ولم يعرفه تحنناً منه ورحمة، أعطني بمسألتي إياك جميع
خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر
الآخرة، فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم، يا ذا الجلال
والإكرام، يا ذا النعماء والجود، يا ذا المنّ والطَوْل"، وكان الإمام
الصادق(ع) يمسك لحيته ويقول: "حرّم شبابي وشيبتي على النار"..
شهر الانفتاح على المحبة:
من خلال ذلك كله، علينا أن ننطلق في هذا الشهر بالمحبة بين
المؤمنين، وأن نستزيد فيه من الرحمة وعمل الخير والمحبة والعفو والتسامح،
لنفتح قلوبنا لله ليغسلها من كل حقد وبغض ونية سوء، أن نقول لربنا عندما
ندخل في ساحات رحمته في هذا الشهر وما بعده: يا ربنا، إننا عبادك الخاشعون
لك، المطيعون لك، وفّقنا يا ربنا من أجل أن نحب بعضنا بعضاً، وأن نساعد
بعضنا بعضاً، وأن نتعاون على البر والتقوى ولا نتعاون على الإثم والعدوان،
وفّقنا يا ربنا من أجل أن نطهّر أنفسنا من كل ما يغضبك ويسخطك، وأن نحصل
على رضاك ولا شيء إلا رضاك، لأن رضاك هو الفوز العظيم والسعادة الكبرى.